فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعن ابن عباس أن ولي يتيم قال له: أفأشرب من لبن إبله؟ قال: إن كنت تبغي ضالتها وتلوط حوضها وتهنأ جرباها وتسقيها يوم وردها، فاشرب غير مضر بنسل، ولا ناهك في الحلب وعنه أيضا: يضرب بيده مع أيديهم فليأكل بالمعروف ولا يلبس عمامة فما فوقها، وسادسها: أن الوصي لما تكفل باصلاح مهمات الصبي وجب أن يتمكن من أن يأكل من ماله بقدر عمله قياسا على الساعي في أخذ الصدقات وجمعها، فإنه يضرب له في تلك الصدقات بسهم، فكذا ههنا، فهذا تقرير هذا القول.
والقول الثاني: أن له أن يأخذ بقدر ما يحتاج إليه من مال اليتيم قرضا، ثم إذا أيسر قضاه، وإن مات ولم يقدر على القضاء فلا شيء عليه، وهذا قول سعيد بن جبير ومجاهد وأبي العالية، وأكثر الروايات عن ابن عباس.
وبعض أهل العلم خص هذا الاقراض بأصول الأموال من الذهب والفضة وغيرها، فأما التناول من ألبان المواشي واستخدام العبيد وركوب الدواب، فمباح له إذا كان غير مضر بالمال، وهذا قول أبي العالية وغيره، واحتجوا بأن الله تعالى قال: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهم} فحكم في الأموال بدفعها إليهم.
والقول الثالث: قال أبو بكر الرازي: الذي نعرفه من مذهب أصحابنا أنه لا يأخذ على سبيل القرض ولا على سبيل الابتداء، سواء كان غنيا أو فقيرا.
واحتج عليه بآيات: منها: قوله تعالى: {وَءاتُواْ اليتامى أموالهم} [النساء: 2] إلى قوله: {إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2] ومنها: قوله: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] ومنها: قوله: {وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط} [النساء: 127] ومنها: قوله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُم بالباطل} [البقرة: 188] قال: فهذه الآية محكمة حاصرة لمال اليتيم على وصية في حال الغنى والفقر، وقوله: {وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} متشابه محتمل فوجب رده لكونه متشابها إلى تلك المحكمات، وعندي أن هذه الآيات لا تدل على ما ذهب الرازي إليه.
أما قوله: {وَءاتُواْ اليتامى أموالهم} فهو عام وهذه الآية التي نحن فيها خاصة، والخاص مقدم على العام.
وقوله: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْمًا} فهو إنما يتناول هذه الواقعة لو ثبت أن أكل الوصي من مال الصبي بالمعروف ظلم، وهل النزاع إلا فيه، وهو الجواب بعينه عن قوله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُم بالباطل} أما قوله: {وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط} فهو إنما يتناول محل النزاع لو ثبت أن هذا الأكل ليس بقسط، والنزاع ليس إلا فيه، فثبت أن كلامه في هذا الموضع ساقط ركيك، والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

واختلف الجمهور في الأكل بالمعروف ما هو؟ فقال قوم: هو القرض إذا احتاج ويقضي إذا أيسر، قاله عمر بن الخطاب وابن عباس وعبيدة وابن جبير والشعبي ومجاهد وأبو عالية، وهو قول الأوزاعي.
ولا يستسلف أكثر من حاجته.
قال عمر: ألاَ إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة الولِيّ من مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف؛ فإذا أيسرت قضيت.
روى عبد الله بن المبارك عن عاصم عن أبي العالية {وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} قال: قرضًا ثم تلا {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ}.
وقول ثانٍ- روى عن إبراهيم وعطاء والحسن البصري والنخعي وقتادة: لا قضاء على الوصيّ الفقير فيما يأكل بالمعروف؛ لأن ذلك حق النظر، وعليه الفقهاء.
قال الحسن: هو طعمة من الله له؛ وذلك أنه يأكل ما يسدّ جوعته، ويكتسى ما يستر عورته، ولا يلبس الرفيع من الكتان ولا الحُلل.
والدليل على صحة هذا القول إجماعُ الأمة على أن الإمام الناظر للمسلمين لا يجب عليه غُرم ما أكل بالمعروف؛ لأن الله تعالى قد فرض سهمه في مال الله.
فلا حجة لهم في قول عمر: فإذا أيسرت قضيت أن لو صح.
وقد روى عن ابن عباس وأبي العالية والشعبي أن الأكل بالمعروف هو كالانتفاع بألبان المواشي، واستخدام العبيد، وركوب الدوابّ إذا لم يضرّ بأصل المال؛ كما يهنأ الجَرْبَاء، ويَنْشُد الضالّة، ويلُوط الحوض، ويجذّ التمر.
فأما أعيان الأموال وأصولها فليس للوصيّ أخذها.
وهذا كله يخرج مع قول الفقهاء: إنه يأخذ بقدر أجر عمله؛ وقالت به طائفة وأن ذلك هو المعروف، ولا قضاء عليه، والزيادة على ذلك محرّمة.
وفرّق الحسن بن صالح بن حيّ ويقال ابن حيان بيْن وصيّ الأب والحاكم؛ فلوصّي الأب أن يأكل بالمعروف، وأما وصيّ الحاكم فلا سبيل له إلى المال بوجه؛ وهو القول الثالث.
وقول رابع روى عن مجاهد قال: ليس له أن يأخذ قرضًا ولا غيره.
وذهب إلى أن الآية منسوخةٌ، نسخها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ} [النساء: 29] وهذا ليس بتجارة.
وقال زيد بن أسلم: إن الرخصة في هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْمًا} [النساء: 10] الآية.
وحكى بِشْر بن الوَليد عن أبي يوسف قال: لا أدري، لعل هذه الآية منسوخة بقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ}.
وقول خامس وهو الفرق بين الحضر والسفر؛ فيمنع إذا كان مقيمًا معه في المصر.
فإذا احتاج أن يسافر من أجله فله أن يأخذ ما يحتاج إليه، ولا يقتني شيئًا؛ قاله أبو حنيفة وصاحباه أبو يوسف ومحمد.
وقول سادس قال أبو قِلابة: فليأكل بالمعروف مما يَجْني من الغلة؛ فأما المال النّاض فليس له أن يأخذ منه شيئًا قرضًا ولا غيره.
وقول سابع روى عكرمة عن ابن عباس {وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} قال: إذا احتاج واضطر.
وقال الشعبي: كذلك إذا كان منه بمنزلة الدم ولحم الخنزير أخذ منه؛ فإن وجد أَوْفَى.
قال النحاس: وهذا لا معنى له؛ لأنه إذا اضطر هذا الاضطرار كان له أخذ ما يُقِيمه من مال يتيمه أو غيره من قريب أو بعيد.
وقال ابن عباس أيضًا والنخعي: المراد أن يأكل الوصي بالمعروف من مال نفسه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم؛ فيستعفف الغنيّ بغناه، والفقير يقَتَرْ على نفسه حتى لا يحتاج إلى مال يتيمه.
قال النحاس: وهذا من أحسن ما روي في تفسير الآية؛ لأن أموال الناس محظورة لا يطلق شيء منها إلا بحجة قاطعة.
قلت: وقد اختار هذا القول الكيا الطبرِي في أحكام القرآن له؛ فقال: توهم متوهمون من السلف بحكم الآية أن للوصيّ أن يأكل من مال الصبي قدرًا لا ينتهي إلى حد السرف، وذلك خلاف ما أمر الله تعالى به في قوله: {لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ} ولا يتحقق ذلك في مال اليتيم.
فقوله: {وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} يرجع إلى أكل مال نفسه دون مال اليتيم.
فمعناه ولا تأكلوا أموال اليتيم مع أموالكم، بل اقتصروا على أكل أموالكم.
وقد دل عليه قوله تعالى: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2].
وبان بقوله تعالى: {وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} الاقتصارُ على البُلْغة، حتى لا يحتاج إلى أكل مال اليتيم؛ فهذا تمام معنى الآية.
فقد وجدنا آيات محكمات تمنع أكل مال الغير دون رضاه، سيما في حق اليتيم.
وقد وجدنا هذه الآية محتملة للمعاني، فحملها على موجب الآيات المحكمات مُتعَيِّن.
فإن قال من ينصر مذهب السلف: إن القضاة يأخذون أرزاقهم لأجل عملهم للمسلمين، فهلا كان الوصي كذلك إذا عمل لليتيم، وَلِمَ لا يأخذ الأجرة بقدر عمله؟ قيل له: اعلم أن أحدًا من السلف لم يجوّز للوصي أن يأخذ من مال الصبي مع غنى الوصي، بخلاف القاضي؛ فذلك فارق بين المسألتين.
وأيضًا فالذي يأخذه الفقهاء والقضاة والخلفاء القائمون بأمور الإسلام لا يتعين له مالك.
وقد جعل الله ذلك المال الضائع لأصناف بأوصاف، والقضاة من جملتهم، والوصي إنما يأخذ بعمله مال شخص معين من غير رضاه؛ وعمله مجهول وأجرته مجهولة وذلك بعيد عن الاستحقاق.
قلت: وكان شيخنا الإمام أبو العباس يقول: إن كان مال اليتيم كثيرًا يحتاج إلى كبير قيام عليه بحيث يشغل الولي عن حاجاته ومهماته فرض له فيه أجر عمله وإن كان تافهًا لا يشغله عن حاجاته فلا يأكل منه شيئًا؛ غير أنه يستحب له شرب قليل اللبن وأكل القليل من الطعام والسمن، غير مُضرٍّ به ولا مستكثر له، بل على ما جرت العادة بالمسامحة فيه.
قال شيخنا: وما ذكرته من الأجرة، ونيل اليسير من التمر واللبن كل واحد منهما معروف؛ فصلح حمل الآية على ذلك. والله أعلم.
قلت: والاحتراز عنه أفضل، إن شاء الله.
وأما ما يأخذه قاضي القسمة ويسميه رسمًا ونهْبُ أتباعه فلا أدري له وجها ولا حلا، وهم داخلون في عموم قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10]. اهـ.

.قال الألوسي:

والإسراف في الأصل تجاوز الحدّ المباح إلى ما لم يبح، وربما كان ذلك في الإفراط، وربما كان في التقصير غير أنه إذا كان في الإفراط منه يقال: أسرف يسرف إسرافًا، وإذا كان في التقصير يقال: سرف يسرف سرفًا ويستعمل بمعنى السهو والخطأ وهو غير مراد أصلًا، والمبادرة المسارعة وهي لأصل الفعل هنا وتصح المفاعلة فيه بأن يبادر الولي أخذ مال اليتيم واليتيم يبادر نزعه منه، وأصلها كما قيل: من البدار وهو الامتلاء ومنه البدر لامتلائه نورًا، والبدرة لامتلائها بالمال، والبيدر لامتلائه بالطعام والاسمان المتعاطفان منصوبان على الحال كما أشرنا إليه، وقيل: إنهما مفعول لهما والجملة معطوفة على ابتلوا لا على جواب الشرط لفساد المعنى لأن الأول بعد البلوغ وهذا قبله، و{يكبروا} بفتح الباء الموحدة من باب علم يستعمل في السن، وأما بالضم فهو في القدرة والشرف، وإذا تعدى الثاني بعلى كان للمشقة نحو كبر عليه كذا وتخصيص الأكل الذي هو أساس الانتفاع وتكثر الحاجة إليه بالنهي يدل على النهي عن غيره بالطريق الأولى، وفي الجملة تأكيد للأمر بالدفع وتقرير لها وتمهيد لما بعدها من قوله تعالى: {وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} إلخ أي ومن كان من الأولياء والأوصياء ذا مال فليكف نفسه عن أكل مال اليتيم ولينتفع بما آتاه الله تعالى من الغنى، فالاستعفاف الكف وهو أبلغ من العف، وفي المختار يقال: عف عن الحرام يعف بالكسر عفة وعفا وعفافة أي كف فهو عف وعفيف؛ والمرأة عفة وعفيفة، وأعفه الله تعالى واستعف عن المسألة أي عف، وتعفف تكلف العفة، وتفسيره بالتنزه كما يشير إليه كلام البعض بيان لحاصل المعنى.
{وَمَن كَانَ} من الأولياء والأوصياء {فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} بقدر حاجته الضرورية من سدّ الجوعة وستر العورة قاله عطاء وقتادة.
وأخرج ابن المنذر والطبراني عن ابن عباس أنه قال: يأكل الفقير إذا ولي مال اليتيم بقدر قيامه على ماله ومنفعته له ما لم يسرف أو يبذر، وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ليس لي مال وإني وليّ يتيم فقال: كل من مال يتيمك غير مسرف ولا متأثل مالًا ومن غير أن تقي مالك بماله، وهل يعدّ ذلك أجرة أم لا؟ قولان، ومذهبنا الثاني كما صرح به الجصاص في الأحكام، وعن سعيد بن جبير ومجاهد وأبي العالية والزهري وعبيدة السلماني والباقر رضي الله تعالى عنهم وآخرين أن للولي الفقير أن يأكل من مال اليتيم بقدر الكفاية على جهة القرض فإذا وجد ميسرة أعطى ما استقرض، وهذا هو الأكل بالمعروف، ويؤيده ما أخرجه عبد بن حميد وابن أبي شيبة وغيرهما من طرق عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: إني أنزلت نفسي من مال الله تعالى بمنزلة مال اليتيم إن استغنيت استعففت وإن احتجت أخذت منه بالمعروف فإذا أيسرت قضيت، وأخرج أبو داود والنحاس كلاهما في الناسخ وابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: {وَمَن كَانَ فَقِيرًا} الآية نسختها {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْمًا} [النساء: 10] إلخ، وذهب قوم إلى إباحة الأكل دون الكسوة، ورواه عكرمة عن ابن عباس، وزعم آخرون أن الآية نزلت في حق اليتيم ينفق عليه من ماله بحسب حاله، وحكي ذلك عن يحيى بن سعيد وهو مردود لأن قوله سبحانه: {فَلْيَسْتَعْفِفْ} لا يعطي معنى ذلك، والتفكيك مما لا ينبغي أن يخرج عليه النظم الكريم. اهـ.